بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين أما بعد:
سورة الكهف مكيَّة واستثنى بعض المفسرين بعض الآيات: أولها (1 - 8)، وآية رقم (28) ومن
(107 - 110) على أنها مدنية، ولكن هذا الاستثناء يحتاج إلى دليل؛ لأن الأصل أن السُّور المكيَّة مكيَّةٌ كلها وأن المدنيَّة مدنيَّةٌ كُلُّها، فإذا رأيت استثناءً فلا بد من دليل.
والمَكِّي ما نزل قبل الهجرة والمدنِيُّ ما نزَل بعد الهجرة حتى وإن نزل بغير المدينة مثل قوله تعالى:
( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِينا)(المائدة: الآية3) فقد نزلت بعرفة عام حجة الوداع.
* * *
﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا(1)قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حسنا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً ﴾ (الكهف:3)
قوله تعالى
الْحَمْدُ ) هو وصفُ المحمود بالكمال محبة وتعظيماً، وبقولنا محبةً وتعظيماً خرج المدح؛ لأن المدح لا يستلزم المحبة والتعظيم، بل قد يَمدح الإنسان شخصاً لا يساوي فلساً ولكن لرجاء منفعة أو دفع مضرة، أما الحمد فإنه وصف بالكمال مع المحبة والتعظيم.
( لِلَّهِ) هذا اسمٌ عَلَمٌ على الله مُختَصٌّ به لا يوصف به غيره، وهو عَلَمٌ على الذات المقدَّسة تبارك وتعالى.
(الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ) جملة: { الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ } هل هي خَبَرٌ، أراد الله أن يُخبر عباده بأنه محمود، أو هي إنشاءٌ وتوجيهٌ على أنَّنا نحمدُ الله على هذا، أو الجميع؟
الجواب: الجميع، فهو خبرٌ من الله عن نفسه، وهو إرشادٌ لنا أن نَحمدَ الله على ذلك.
(عَبْدِهِ) يعني مُحَمَّداً صلى الله عليه وسلم، وَصَفَهُ تعالى بالعبودية؛ لأنه أعبَدُ البَشَر لله . وقد وصَفَه تعالى بالعبودية في حالات ثلاث:
1 -حالِ إنزال القرآن عليه كما في هذه الآية.
2 -في حالِ الدفاعِ عنهُ صلى الله عليه وسلم، قال تعالى
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (البقرة:23)
3 -وفي حالِ الإسراءِ به، قال تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1)
{يعني في أشرف مقاماتِ النبي صلى الله عليه وسلم وَصفهُ الله بأنه عبدٌ، ونِعمَ الوصفُ أن يكون الإنسانُ عبداً لله، حتى قال العاشق في معشوقته:
لا تدعُني إلاَّ بيا عَبدَها فإنه أشرف أسمائي
{ الكتاب} أي: القرآن، سُمِّي كتاباً؛ لأنه يُكتب، أو لأنهُ جامع، لأن الكَتْب بمعنى الجَمْع، ولهذا يقالُ: الكتيبةُ يعني المجموعةُ من الخيل، والقرآن صالح لهذا وهذا فهو مكتوبٌ وهو أيضاً جامع.
(لم يجعل له عوجا)لم يجعل لهذا القرآن عوجاً بل هو مستقيم؛ ولهذا قال:
( قـَيـِّما)وقيماً حال من قوله: {الكتاب)، يعني: حالَ كونه قَيِّماً. فإن قال قائل: "لماذا لم نجعلها صفة، لأن الكتابَ منصوبٌ وَقَيِّماً منصوب؟".
فالجواب: أن قيماً نَكِرة والكتاب معرفة ولا يمكن أن توصف المعرفة بالنَّكِرَة، ومعنى {قيما} أي: مستقيماً غايةَ الاستقامة، وهنا ذَكَرَ نَفْيَ العيبِ أولاً ثم إثباتَ الكمال ثانياً. وهكذا ينبغي أن تُخلي المكان من الأذى ثم تَضع الكمال؛ ولهذا يقال: "التخلية قبل التحلية"، يعني قبل أن تُحلِّي الشيء أخلِ المكان عمَّا ينافي التحلي ثم حَلِّه، وفي قوله تعالى: { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا (1) قيما). تنبيه. وهو أنه يجب الوقوف على قوله: { وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا } لأنك لو وصلت لصار في الكلام تناقضٌ، إذ يوهمُ أن المعنى لم يكن له عوج قَيِّم.
ثم بيَّن تعالى الحكمة من إنْزال القرآن في قوله
لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حسنا)
الضمير في قوله: {لينذر } يحتملُ أن يكون عائداً على {عبده } ويحتملُ أن يكون عائداً على { الكتاب} وكلاهما صحيح، فالكتاب نَزل على الرسول صلى الله عليه وسلم لأجل أن يُنذِر به، والكتاب نفسُه مُنذِر، ينذر الناس.
( بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ ) أي من قِبَلِ الله عز وجل ، والبأس هو العذاب، كما قال تعالى
فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً)(الأعراف: الآية4)، يعني عذابنا، والإنذار: هو الإخبار بما يُخَوِّف.